هل الأرقام التي تُعلنها الصين عن عدد ضحايا كورونا صحيحة؟
وكالة الأويغور للأنباء
29-03-2020
عبده فايد
عُد بالذاكرة إلي أسوأ موجة من الموت في تاريخ الصين..العلاقات الصينية-السوفياتية كانت علي درجة فائقة من التميز في عهد ستالين وماو..الصين أرادت الإستفادة من النموذج السوفياتي، فأرسلت خبرائها لدراسة نموذج التعاونيات، وعادوا محمّلين بأطنان من القروض السوفياتية من الوقود وحتي هياكل المصانع، والثمن كان يُسدد بالمحاصيل الزراعية، لكن الخلاف دبّ بين الدولتين عندما وصل خروتشوف إلي سدة السلطة، وألقي خطابه الشهير عام 1956 الذي ندّد فيه بوحشية ستالين، فافترقت الطرق..لم يعتبر ماو نظيره السوفياتي تحريفيًا فحسب، بل خشي من أن تكون هناك قوي ‘‘رجعية‘‘ داخل حزبه، تنتظر نصف فرصة للظهور علنًا ونقد ميراثه..فابتكر حيلة جديدة..أطلق بنفسه حملة لنقد كل قيادات الحزب الشيوعي بما فيها شخصه، فاندفع الكتاب والمثقفون لتعليق العرائض علي جدران الميادين والجامعات وداخل مقار الحزب..كانوا يعتقدون أن عصر التغيير قد بدأ، لكنها لم تكن سوي مصيدة ماو، الذي جمع رقمًا يتراوح بين 500 ألف إلي مليون مُعارض وألقي بهم في معسكرات إعادة التأهيل بعد وصمهم بالتحريف والرجعية، وستعرف تلك الحملة لاحقًا ب ‘‘حملة المائة وردة‘‘.
ماو تسي تونج أمّن نفسه من ‘‘خروتشوف‘‘ جديد داخل حزبه..ماذا يفعل لاحقًا؟..تحدي النموذج السوفياتي..خروتشوف أعلن عن نيّته زيادة الناتج المحلي لبلاده، بحيث يفوق نظيره الأميركي، فرّد ماو بخطة طموحة لزيادة إنتاج الصين من الفولاذ، بحيث تسبق أحد أكبر أقطاب العالم في إنتاجه، بريطانيا العظمي..كانت الصين تُنتج سنويًا 5 ملايين طن، فأراد ماو مضاعفتها خلال 3 سنوات، بدءً من العام 1958 لتصل إلي 100 مليون طن، وحشد لتلك الحملة التي أطلق عليها اسم ‘‘ القفزة الكبري إلي الامام‘‘، طاقات كل المزارعين..كل شيء تحوّل لإنتاج الفولاذ، تركوا كل ما بأيديهم، أعمالهم الزراعية والإنتاجية، وتفرغوا لتحقيق الهدف الوطني، جمعوا أوانيهم وملاعقهم وصهروها في مواقد بدائية في الريف، وفي نفس الوقت كان عليهم إيهام الزعيم بأن الإنتاج الزراعي يسير علي خير ما يرام، كان الكذب يفوق كل وصف، كم مربع واحد من الأرض الزراعية لا ينتج سوي طنًا من الأرز، فخرجت الدعاية الإعلامية لتقول بإنتاج يصل ل 20 طنًا، ليس هذا الخبر السيء فحسب، الأسوأ أن هذا الرقم كان يعني ضرائب أكثر، يسدّدها الفلاح من محصوله المخزّن، وبالتالي سّددوا من إنتاج طن واحد ضرائب ل 20 طنًا، فقلّت مواردهم الغذائية..وانتهي بهم الحال لفشل مزدوج..فولاذ رديء القيمة، وغذاء منعدم..والثمن مجاعة قادمة لا محالة.
بدأت أرقام الوفيات تتصاعد..في إقليم شاندونج سُجلت قرابة مليون وفاة في أواخر العام 1958..قائد الجيش الصيني في الحرب الكورية ورفيق درب ماو في المسيرة الكبري ‘‘بنج دون هواي‘‘ لم يرقه الأمر..فوقف في مؤتمر لوشان، مُنتقدّا عواقب القفزة الكبري للأمام، فرّد ماو بعنف لفظي غير معهود وأخبر بنج بأنه سيعاشر أمه طيلة الأربعين عامًا القادمة، ثم قام بتنحيته من كافة مناصبه..رائحة الموت ستتصاعد لحد أن 3 من المكتب السياسي للحزب الشيوعي سيأمرون بإجراء إحصائية لعدد الوفيات في الريف، ويخرج التقرير في العام 1959 ب 10 ملايين وفاة، وعندما استلمه رئيس الوزراء شواي إن لاي، أمر علي الفور بإحراقه..الملايين يموتون ويتضورون جوعًا والكتمان الرسمي ما يزال سيد الموقف، لا، بل سارعت أجهزة الدعاية الحكومية لتصوير أفلام عن الرفاه الريفي في شينيانج في إقليم شاندونج، وتقديم الإقليم للعامة بوصفه نموذجًا يتعيّن إتباعه، لكن لم يعلم الناس في العاصمة بكين أن ذات الإقليم شهد وفاة مليون شخص من الجوع، وكيف لهم أن يعلموا؟ والرفيق ماو كان يظهر أمامهم في الحفلات الراقصة مع الحسناوات، ليطمئن الجميع أن كل شيء علي ما يُرام.
شخص واحد فقط أراد التحقق من رواية زعيم الثورة الصينية ماو تشي تونج..كان الرئيس الصيني ليو شاو تشي، الذي ذهب إلي قريته في هينان، لتصدمه أرقام الوفيات من المجاعة، فجمع الفلاحين وسألهم عن السبب، كانوا خائفين من البوح بالحقيقة، فأخبروه أن السبب هو الجفاف، لم يصدقهم الرئيس، لأنه تربّي في الريف، ويعلم أن مجاري المياه ستفرغ لو ضرب الجفاف المنطقة، لكنها ممتلئة إلي نصفها..فأعاد السؤال مرارًا إلي أن تلقّي إجابة علي استحياء..30 % من المجاعة بسبب كوارث طبيعية، أما الباقي، 70%، فمن صنع الإنسان..ذهب الرئيس ليو شاو تشي إلي بكين، وواجه ماو وأخبره بالحقيقة..القفزة الكبري للأمام هي السبب في المجاعة..وإثر ذلك استلم الرئيس زمام القيادة رفقة صديقه دينج شياو بينج، وزواي لاي، وقاما بإصلاح نموذج التعاونيات وسمحوا للفلاحين بحيازة كمية أكبر من الإنتاج الزراعي، وأوقفوا تطرف صناعة الفولاذ..وهنا أيقن ماو أن عليه ‘‘إعادة التموضع‘‘..انسحب من المشهد السياسي ولجأ للريف لترتيب أوراقه..لكنه سيعود من الباب الأوسع بعد أشهر..تلك المرة علي حراب شبيبة الحزب.
عندما عاد ماو لبكين أطلق يد المراهقين وطلاب الجامعات للتنكيل بأعداء الأمة من الرجعيين والتحريفيين واليمنيين والبرجوازيين..لبي الشباب طلبه ولاحقوا الكل..أطباء ووزراء ومحافظين وكتاب وممثلين وأكاديميين، وأجروا محاكمات شعبية ونفذوا إعدامات جماعية..ستشاهد أحدهم في الفيلم الذي سأخبرك عن إسمه لاحقًا، رجل قعيد يتحدّث أمام الكاميرا ويخبر المراسل عن قصة الشلل..الحرس الأحمر حاصر جامعة بكين، وألقي القبض عليه وعذّبه جسديًا بما يفوق طاقته، عندئذ تساوي لديه الموت والحياة، فاختار القفز من الدور الرابع، لكنه لم يُمت، أصيب الشلل وحُكم عليه بالجلوس علي كرسي متحرك طيلة حياته..لم يكن هذا الشخص سوي دينج بوفانج، الرئيس الحالي للجمعية الصينية للمعاقين، وإين الزعيم الأسطوري دينج شياو بينج، رفيق الرئيس ليو تشاو شي في إصلاح نتائج المجاعة التي تسبّبت بها القفزة الكبري، والذي سيصبح قائدًا للصين بعد وفاة ماو وقائدًا لنهضتها الحديثة بعد إطلاق سياسة الإصلاح والإنفتاح..تتذكّر أول المعترضين علي القفزة الكبري، قائد الجيش الصيني في الحرب الكورية، بنج دون هواي؟ ستراه أيضًا وهو يسير ذليلًا بعد القبض عليه بتهمة التبذير والفساد..وبالطبع لم تنس الرئيس ليو تشاو شي؟..حاصر الحرس الشبابي الأحمر بيته وجرّوه للميدان الذي اعتاد مخاطبة الجماهير منه، وهو ميدان زونج وان هاي..ستشاهده والشيب يكسو رأسه، بينما يتوجّه إليه المراهقون بحديث صاخب..كانت تلك آخر مرات ظهوره العام، بعدها سيجُر إلي سجن حقير، ويُمنع عنه الدواء، ويلقي حتفه عام 1969..المهنة: غير معلومة..هكذا دُوّن علي شهادة وفاته.
بمزيج من الجهل والغرور أنتج ماو سياسة فاشلة هي القفزة الكبري، قادت لأكبر مجاعة في تاريخ البشرية بين عامي 1958-1961، وأخفي بإمعان كل التقارير التي وردته عن أعداد الوفيات، ومنع ظهور أي نقد إعلامي لسياسته، وبينما كان الناس يموتون بالملايين، كان ماو يضحك أمام الكاميرات مبتهجًا بمحصول الأرز الوفير، الذي من فرط صلابته، يستطيع حمل إنسان فوقه..أتُلفت التقارير ومُنع الزعماء الكبار في المكتب السياسي من الحديث، وعندما تجرأوا وفتحوا أفواههم، كان الثمن ملاحقة مريرة في الثورة الثقافية..ولاحقًا بعد وفاة ماو عام 1976 سنعلم فقط عن مدي فداحة الكارثة..رقمًا يتراوح بين 30 مليون- 43 مليون صيني لقوا حتفهم في 3 سنوات فقط بسبب المجاعة..وهذه القصة تستطيع الوقوف عليها تفصيًلأ وبشهادات من عاصروها وأبناء كبار الزعماء، ابنة الرئيس ليا تشاو تشي، وإبن دينج شياو بينج، في وثائقي من 5 أجزاء بعنوان ‘‘ماو: الأسطورة الصينية‘‘ وتحديدًا الجزأين الثالث والرابع.
إن كنت تظن أن الصين لا يُمكنها إخفاء أرقام وفيات كورونا المقدّرة بألوف فقط..لا..الصين أخفت عن العالم وعن شعبها لسنوات حقيقة مجاعة أودت بحياة 43 مليونًا.
دينج شياو بينج تولّي السلطة عقب وفاة ماو..بالتأكيد سيثأر لعزله من منصبه، ثم لتسبب الحرس الأحمر الماوي في شلل إبنه؟..صحيح بالفعل..حوّل السياسية الإقتصادية إلي الرأسمالية، وحاكم صقور المكتب المكتب السياسي، وعلي رأسهم عصابة الأربع، وبالأخص زوجة ماو، الممثلة الفاشلة جيانج كينج، المسئولة عن محاكمات الثورة الثقافية، وزّج بها في السجن حتي وفاتها..وبالتأكيد أيضًا لن يُكرر كوارث ماو؟ ليس صحيحًا..المعسكر الشيوعي بدأ في الإنهيار عام 1989، ووصلت رياح الموجة الديمقراطية الثالثة إلي بكين..وكما وقف دينج شياو بينج ذات يوم معارضًا زعيمه ماو في القفزة الكبري والمجاعة، وقف هو ياو بانج أحد كبار قادة الحزب أمام دينج ليطالبه بتعزيز الإصلاحات الديمقراطية..دينج تصرّف بفروسية، فلم يقتل معارضه أو يسجنه، بل همّش دوره فقط، حتي وفاته في 15 إبريل عام 1989..ظنّ دينج أنها نهاية الموجة الإصلاحية، لكنها كانت فاتحة لموجة كاسحة ستهز العالم بعد بضعة أشهر فقط..انتهز مؤيدو الإصلاحي هو ياو بانج يوم تشييع جثمانه، للتظاهر أمام المقر الرئيس للحزب الشيوعي والمطالبة بالديمقراطية..وما بدأ بحشد من عشرات البشر انتهي لتظاهرة هي الأضخم في تاريخ الصين، في الميدان السماوي تحديدًا، حيث تجمّع مئات ألوف البشر.
هناك مشهد لإذلال السلطة الصينية لا يُمكن أبدًا نسيانه..شاب نحيل القامة يُدعي ‘‘ووئير كايتشي‘‘ كان قد دخل إضرابًا مفتوحًا عن الطعام مع زملائه من قادة ميدان السلام السماوي، إلي أن أجبروا السلطة ممثلةّ في رئيس الوزراء علي الجلوس للتفاوض معهم..أمام عدسات التلفاز الوطني ومئات محطات النقل التلفزيوني في الكوكب جلس كايتشي بينما قدمه اليمني تعلو اليسري، ووبخ الرجل الثاني في الصين والحزب الشيوعي، وبدا كما لو كان واثقًا من الانتصار الحتمي للإرادة الشعبية بدمقرطة البلاد..لن يعلم أبدًا أن الزعيم القوي دينج شياو بينج سيوقع بعد أيام مرسومًا بسحق المعارضة في تياننمن..كانت هناك حامية عسكرية تحيط بالميدان، ومن طول العشرة وطّدت علاقتها بالمتظاهرين، الذين أحضروا للجنود ملابس ومأكولات.
سحبت بكين تلك الحامية واستبدلتها بمائتي ألف جندي من الريف، وكانت حريصة علي أن يكونوا من القسوة بما يكفي لإطلاق الرصاص وسحق الهامات بالدبابات..وبعد التلقين وصدور الأوامر بدأت المجزرة، فتنامت أخبارها إلي مسامع أهالي العاصمة فنزلوا لحماية الميدان ومهاجمة الدبابات..أحرقوها وأنزلوا الجنود وأشبعوهم ضربًا حتي الموت، لكن النتيجة كانت محسومة سلفًا، سحق الجيش كل الحراك في الشوارع المحيطة بالميدان، الذي استسلم في الأخير بعد سقوط مئات القتلي..لم تكن هناك عربات إسعاف، كان الناس ينقلون المصابين بالدراجات، وحينما فعلوا جري استهدافهم بالرصاص، فسقطوا سويًا، المُنقذ والمريض..وفي صباح الفض دخل الأهالي الميدان للبحث عن ذويهم، والثمن بسيط..رصاصة في الظهر، وأخري في الرأس لمن سوف يتجرأ وينقذك.
قضت الحكومة علي حركة تياننمن وانصرفت إلي اعتقالات وإعدامات ميدانية لقادة الحراك الأقل شهرة، أما ال 21 المرموقين من الكوادر الطلابية وكبار المثقفين فقد صدرت بحقهم لائحة اتهام، وخُصّص لكل منهم 40 ظابط لملاحقته..في هونج كونج التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية، كوّنت شبكة من منتجي الأفلام خلية سرية للتواصل مع كبار قادة الحراك، كان الوسيط هو ‘‘المافيا الصينية‘‘ التي تحتكم علي أدوات اتصال ربما لا تمتلكها الحكومة، رتبت المافيا نقل التعليمات، ثم توّلت نقل المعارضين علي مرحلتين..الأولي نقلهم لمسافة 2000 كم من أماكن اختبائهم قرب بكين إلي أقصي جنوب البر الرئيس للصين، وهناك تم إيوائهم علي نفقة المافيا، والثانية نقلهم بالسفن المستخدمة في تهريب البضائع إلي هونج كونج، وهناك كانت الخلية تنشط في تواصل سري مع السفارات الأجنبية لتسهيل طلبات لجوء قادة حراك تياننمن.
سفارة الولايات المتحدة كانت أولي البعثات الدبلوماسية المستهدفة، ورفضت علي الفور عبر قنصلها دونالد أندرسون، ثم تلتها في ذلك كندا واستراليا..وحده القنصل الفرنسي جان بيير مونتاني هو من وافق واستضاف أخطر المطلوبين ووئير كايشي في منزله الواقع علي جبل بيك، ثم بدأ في إطلاع سلطات بلاده العليا (الرئيس ميتران ووزير الخارجية رولان دوماس ) والتي أمّنت بدورها موافقة سرية، وعهدت إلي بعض المختصين بالشئون الصينية (6 أفراد بينهم دبلوماسيان) من أجل ترتيب محل إقامة سري في باريس يستوعب المعارضين الفارين، الذين كانوا قد وصلوا إلي هونج كونج بالفعل..علي الفور هبط ظابط استخبارات بريطاني الجنسية من لندن لتنسيق عملية هروبهم، ورتّب لهم جوازات سفر مزورة، حتي أنه اختار لهم نوعية الميكاب الملائمة للتخفي، وفي الأخير غادروا سرًا إلي باريس، ولم ير أحد منهم بر الصين الرئيس مرة أخري، فيما عُرف ب ‘‘ Operation Yellowbird ‘‘ والتي وقفت علي تفاصيلها السابقة في وثائقي ماتع شاهدته في يونيو 2019، موعد الذكري الثلاثين لمجزرة تياننمن، وهو من إنتاج DW تحت عنوان ‘‘عملية العصفور الأصفر: أجهزة الاستخبارات وانتفاضة ساحة تيانانمن‘‘
إن كنت تعتقد أن الصين لا يُمكنها إخفاء حقيقة قتلي الفيروس..لا..الحزب الشيوعي في عهد دينج مسح كل أثر لسحق الميدان السماوي، وسواء في عهد أو كل من خلفه لاحقًا، مُنع ذكر المذبحة، وألغي كل ما يتعلق بأرشيفها، ولم يعد يُشار إليها إلا بأحداث 4 يونيو، حتي أن الأجيال الجديدة تكاد تجهل حدوثها من الأساس في القرن الحادي والعشرين، ولا حتي تمييز صورتها الأشهر لرجل يقف أمام الدبابات، وهنا يُمكنك قراءة تقرير صادم من محطة ABC تحت عنوان Tiananmen Square 30th anniversary: How China erased iconic ‘tank man’ image for young people..ولولا هروب بعض قادة الحراك إلي الخارج، لم يكن لأحد علي وجه الأرض، أن يعلم بدقة تفاصيل ما جري في تلك الأحداث.
لحزب الشيوعي يستطيع تزوير كل شيء، لا فارق بين راديكالي كماو في التعامل مع المجاعة، أو إصلاحي كدينج في معالجة اعتصام الميدان السماوي.
عُمر بيكلي..مواطن من كازاخستان، اعتقلته الشرطة الصينية لمدة 8 أشهر ثم أرسلته لمعسكر إعادة التأهيل في إقليم شنجيانج..الإقليم الذي ضمّته الصين يُمثل سُدس مساحتها ويمتلك معظم احتياطاتها من اليورانيوم والذهب والنفط والغاز، ويمثل ارتكازًا حيويًا في استراتيجية التمدد الأوراسي كمعبر بين آسيا وأوروبا، وبإخضاعه يُمكن منافسة سكك الحديد الروسية عبر سيبيريا، والوصول إلي تركيا وإيران عبر طريق بري يخترق طاجيكستان وأفغانستان، وبلوغ المياه العميقة علي بحر العرب عبر ميناء جوادار الباكستاني واختراق كازاخستان عبر خطوط أنابيب وسكك حديدية وصولًا إلي بحر قزوين، وبدون هذا الإقليم سوف تفقد الصين مكانتها كقوة آسيوية باسيفيكية، كما يذكر باراج خانا في كتابه ‘‘العالم الثاني‘‘ في القسم الثاني ‘‘شئون آسيوية‘‘، تحديدًا الفصل التاسع ‘‘التبت وشينجيانج (تركستان الشرقية): الستار الخيزراني الجديد‘‘، ص:ص 138-146..الإقليم مهم، والصين لن تتأخر في محاولة تغيير خريطته الديموجرافية بتوطين الهان علي حساب السكان الإيجور منذ منتصف القرن العشرين، وستستمر طيلة الأعوام الخمسين المقبلة، في سحق كل هوية ثقافية للإيجور، من شأنها أن تؤدّي يومًا لنمو مطالب قومية..وستبلغ في قمعها المرحلة القصوي التي اتبعتها في الثورة الثقافية.
معسكرات إعادة التأهيل تلك المرة ليست لليمين الرجعي الإنتهازي التحريفي..بل لمسلمي الأويغور.
المواطن الكازاخي كان أحد هؤلاء المعتقلين، وخرج ليقص للعالم حكايته المروّعة في مايو 2018..لم يكن يُسمح له بالنوم طيلة أربع أيام..كانت يداه وقدماه مكبلتين إلي كرسي حديدي يُعرف باسم كُرسي النمر..كان يُجبر علي الوقوف يوميًا لمدة 5 ساعات مع فترات أخري من الحرمان من الأكل، كما أجُبر علي تناول لحم الخنزير واحتساء الكحول كعقاب..بيكلي الذي حاول الإنتحار في محبسه، بعد أول 3 أسابيع، ما زال يتذكّر كل تفصيلة، كل الذكريات تعود لتغمره من مطلع الليل لآناء النهار، قبل أن ينخرط في بكاء حار، وهو يتذكّر كيف أجبر علي التنكر لدينه وهويته وعرقيته..القصة ستجدها في كل وسائل الإعلام..ربما تقرير الإندنبندت Muslims forced to drink alcohol and eat pork in China’s ‘re-education’ camps, former inmate claims يساعدك علي تذكرها..ماذا كان رد فعل الحكومة الصينية؟ الإنكار..هذه المعسكرات غير موجودة من الأساس، وهذا الرجل كاذب، وكل تلك التقارير مفبركة..ولمدة عام لم تفعل بكين شيئًا سوي الكذب، المزيد منه، إلا أن اضطرت للإعتراف بوجودها، وسمحت للمرة الأولي لمراسلي BBC بالدخول للمعسكرات وإنجاز تقرير يبرز المسلمون والمسلمات وهم يتراقصون فرحًا وطربًا من حسن المعاملة الرسمية، ومن فرط المأساة كانت الصورة الموضوعة علي التقرير المعنون ب Inside China’s ‘thought transformation’ camps، لرجل يرقص بينما عينه اليمني متورمة من الضرب المُبرح.
في عصر السماوات المفتوحة والعولمة..لا يتوقف الحزب الشيوعي عن التزييف والإنكار، حتي لو طال الأمر مليونًا من البشر، يُجمعون كالماشية، بل أقل سبيلًا، ويتعرضون لغسيل مخ مكثّف وامتهان مخزي لأبجديات الكرامة الإنسانية..ما كشف المأساة، كان بعض من تجرأوا علي الحديث في المنافي، فجلبوا اهتمام الصحافة الدولية لتبدأ التقصي، حتي أجُبرت بكين علي الإعتراف بوجودها..وتحاول الآن تجميل واقعها المرير..حتي محاولات كشف الحقيقة علي مستوي محلي صغير، قد تعرضك لتدمير حياتك..مراسل محطة ABC أعدّ فيلمًا وثائقيًا من قلب الصين عن نظام النقاط الذي يُستخدم في تقييم المواطنيين وتصنيفهم لشرفاء وطالحين، وبناء عليه تُقدم لهم الخدمات الحكومية من عدمه أو ما يُعرف ب Social Credit System..في الفيلم الذي يأتي تحت عنوان Exposing China’s Digital Dystopian Dictatorship..التقي المراسل بصحافي استقصائي صيني يُدعي ‘‘ليو هاو‘‘ في تشونج شينج، أحد المراكز التكنولوجية في وسط الصين، والواقعة علي ملتقي نهري اليانجستي وجي لينج..في عام 2015 تورّط في معركة قضائية ضد مسئول نافذ اتهمه بالإبتزاز..ربح المسئول وحكمت المحكمة علي الصحافي بنشر إعتذار رسمي ودفع غرامة، ولما طالبته بأموال إضافية، رفض الصحافي..ولم يمض وقت قبل أن يتحول إلي مواطن منبوذ..سجلته الدولة علي القائمة السوداء كشخص ‘‘غير شريف‘‘..يفتح الموبايل، لحجز تذكرة قطار؟ ممنوع..طائرة؟ ممنوع..يفتح حساباته علي موقع التواصل الإجتماعي الصيني ويبو، حيث يتابعه مليونا شخص؟ الدولة أغلقتها كلها..يجرب إنشاء حساب جديد، فلا يفلح..هكذا كلفة الإفصاح وملاحقة الحقيقة..النبذ الإجتماعي.
الحزب الشيوعي الصيني ميراث من الكذب والتزييف المروّع الذي امتد من مجاعة أخفاها لسنوات، حتي كشفتها الصراعات الداخلية بين كبار أعضاء المكتب التنفيذي، لمجزرة راح ضحيتها ألوف وحاول محوها من الذاكرة الجمعية، لولا الفارين الذي أصروا وما يزالون علي استحضار ذكراها، وصولًا إلي قمع وحشي للإيجور، لولا – مرة أخري- الخارجين من الجحيم الذين نكأوا جراحهم وأخرجوا من بين شقوقها قصة معاناة شخصية، سرعان ما كشفت أهوال يلاقيها مليون إنسان..لذا..في 2020..عندما يأتي إنسان ويُشكك في الأرقام الصينية..يجب أن يُلتمس له كل العذر..الصين لم تُقدم ما يشفع لها، ليست لها سوابق تاريخية تساعد علي تصديق روايتها الرسمية الحالية..والأصل في التعامل مع أي رواية صينية هو التشكك وغير ذلك من باب خداع النفس، مثل الإشارة لتقارير منظمة الصحة العالمية، التي هي في النهاية، ثلة من الموظفين، الذين لا يمتلكون أية أدوات تحقيق وتقصي مستقلة في المطلق، وبالأخص داخل الصين، حيث الإعتماد الرسمي علي البيانات الحكومية.
هل أرقام الصين صحيحة؟..لا يُمكن الجزم بصدقيتها، ولا يُمكن النفي..فقط التشكك..وهو الموقف الأصوب علي الدوام من الحزب الشيوعي..التشكك ثم الإنتظار..لكن التعامل مع الروايات الحكومية الصينية في المطلق باعتبارها أمر مُصدّق، والتبرع المجاني بالدفاع عنها، وإتهام المترويّن أو المُشككين بالعنصرية ضد الجنس الأصفر..فهذا هو عين السذاجة !