هندسة الطوارئ في زمن كورونا.. كيف تبني مستشفى ميدانياً في 9 أيام؟
وكالة الأويغور للأنباء
09-04-2020
هندسة الطوارئ في زمن كورونا.. كيف تبني مستشفى ميدانياً في 9 أيام؟
دفعت جائحة فيروس كورونا عديداً من الدول إلى تنفيذ خطط طوارئ وبناء مستشفيات مؤقتة في غضون أيام معدودة، فمن الصين إلى إسبانيا وإيطاليا وأمريكا إلى بريطانيا وغيرها، استخدمت هذه الدول مساحات ومبانٍ مختلفة من فنادق أو مطارات أو حلبات تزلج وغيرها، وحوَّلتها إلى مستشفيات طارئة، بسبب تضخم أعداد الوفيات والإصابات لديها، وعدم قدرة المستشفيات على استيعاب مزيد من الحالات. وفي هذا التقرير، نأخذ تجربة المملكة المتحدة كمثال في هندسة الطوارئ، وصنع مستشفيات مؤقتة أو مشارح أو مستودعات للجثث.
مباني طوارئ شُيّدت بسرعة هائلة
أصبح صوت الضجيج في حي وانستيد بشرق لندن، القادم من مولدات طاقة كبيرة تُستخدم للإبقاء على أسطول من ثلاجات حفظ الجثث داخل خيم بيضاء أُقيمت في إحدى الساحات الكبيرة، أمراً مألوفاً لسكان الحي، ويغطي المجمّع الذي أنشأته السلطات هناك، مساحة ملعبي كرة قدم، وهو عبارة عن مشرحة ومستودع مؤقت لحفظ الجثث، وأحد تلك الهياكل التي شُيّدت بسرعة هائلة في جميع أنحاء المملكة المتحدة للتعامل مع الارتفاع المتزايد في عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، كما تروي ذلك صحيفة The Guardian البريطانية.
ويقع المكان بالقرب من “مقبرة لندن” وموقعها المخصص لحرق جثث الموتى، وعلى بُعد ثلاثة أميال فقط من مستشفى “نايتنغيل” الميداني الجديد الذي أقيم محل الموقع الذي كان مخصصاً لمعرض “أكسيل” بلندن، وهو موقع استراتيجي وصفته عمدة نيوهام، روخسانا فياز، في خطاب إلى السكان المحليين، بأنه “يمكن تحويله إلى موقع لحفظ الجثامين قبل تكريمها سواء بالحرق أو بالدفن، لإرسال أحبّائنا في رحلتهم الأخيرة”. إنها مستودع لحفظ الجثث، لن يُسمح بالطبع للأقارب المكلومين بفراق أحبّائهم بزيارته.
ومرفق وانستيد واحد من نحو 200 مجمع مشارح مؤقت شرعت السلطات في إقامتها بجميع أنحاء المملكة المتحدة وأيرلندا، استعداداً لما وصفه مجلس الوزراء بأنه “أسوأ سيناريو معقول”، بخلاف سيناريوهات أخرى قد تطغى فيها عشرات الآلاف من الجثث اليومية على القدرات الاستيعابية لأي عدد متاح من المستودعات.
حلبات تزلج ومتاحف وحظائر طائرات
ولم توضع من قبلُ خطة لمواجهة سيناريو كهذا؛ ومن ثم تستجيب كل منطقة وفقاً للمرافق والمساحات المتاحة لديها. في مدينة ديفون، على سبيل المثال، تمركزت شاحنات التبريد في قطعة أرض فارغة بالقرب من مستشفى “تورباي” هناك. وفي مدينة ميلتون كينز، وقع الاختيار على حلبة كبيرة للتزلج للاضطلاع بالمهمة، خاصةً مع بنيتها التحتية المخصصة للتبريد، وهو ما يجعلها مناسبة تماماً. أما مدينة دبلن، فإن “المتحف الأيرلندي للفن الحديث” الواقع فيها (والذي كان في الأصل مبنى مستشفى كيلمينهام الملكية)، سيعود مرة أخرى لتقديم خدمات طبية، إذ يستضيف مستودعاً لحفظ الجثث على أرضه، وصولاً إلى مدينة برمنغهام التي قرر مسؤولوها تحويل حظيرة الطائرات في مطارها إلى مشرحة ومستودع بسعة تصل إلى 12 ألف جثة.
ومن الجدير بالذكر أن جائحة كورونا ما انفكت تستدعي إحدى كبرى عمليات تعبئة البنية التحتية التي شهدتها البلاد في وقت السِّلم، بدءاً من المقرات المتنقلة لإجراء الاختبارات وصولاً إلى وحدات العناية الفائقة التي أنشئت على عجالة في كل مكان. وقد تضمن ذلك جهداً ماراثونياً لنقل السقالات والسرادقات والخيام القابلة للنفخ والكبائن المحمولة والشروع في العمل، لتصبح المباني الحالية متاحةً للاستخدام في غضون أيام. ولما كان ثمة حاجة في كثير من الحالات إلى البدء في أعمال البناء قبل الانتهاء من الخطط المتعلقة بالمباني، فإن المعماريين والمهندسين والمسؤولين عن تجهيزات المباني يستجيبون بسرعة فائقة لا تتيح وقتاً إلا للأساسيات. وهذه هي هندسة الطوارئ في أوضح صورها.
هندسة الطوارئ
منذ منتصف فبراير/شباط الماضي، أخذت شركة “بورت كابن” Portakabin، التي تتخذ من يورك مقراً لها وتعد إحدى أبرز الشركات العاملة في مجال المباني الجاهزة والكرفانات لأكثر من 60 عاماً، تتصدر الخطوط الأمامية، بما تقدمه من عدد كبير من تصميمات المباني والهياكل المعدة للاستخدام في حالات الطوارئ. وقد بدأت الشركة أعمالها ذات الصلة بإنشاء وحدات مخصصة لتصنيف وعزل الحالات في مواقف السيارات بالمستشفيات، وتعمل الآن على الخطط المتعلقة بالبرنامج الوطني للحكومة فيما يخص المشارح ومستودعات حفظ الجثامين.
يقول مدير الشركة روبرت سنوك: “اتصلت بنا هيئة الإدارة التجارية التابعة لمجلس الوزراء وسألتنا عما يمكننا تقديمه فيما يتعلق (بمستودعات حفظ الجثث). ولم يستغرق الأمر كثيراً ليصبح المقصد من ذلك واضحاً”. وتنتج الشركة نوعاً من ثلاجات التخزين التي تتوافر منها نماذج جاهزة التركيب استُخدمت من قبل لتخزين كل شيء من زهور الأوركيد المستوردة من الخارج إلى النبيذ الفاخر.
مشرحة مؤقتة يتم بناؤها في وانستيد فلاتس، شرق لندن/ PA
ومع ذلك، فإن أنظمة الأرفف القابلة للتحريك والتي يجب توافرها في ثلاجات حفظ الجثث، كانت تحدياً من نوع آخر. فقد كان الجزء الأكبر من عمل الشركة حتى ذلك الوقت يتمثل في توفير أكبر قدر من المساحات المتاحة للاستخدام في المستشفيات، بحيث يمكن نقل الأقسام التي تضم حالات أقل خطورة، وتوفير مساحةٍ أكبر لاستقبال المصابين بفيروس (كوفيد 19) في المباني الرئيسية للمستشفى.
ويقول سنوك إن كل تلك الأعمال تعتبر مألوفة لشركة اعتادت التعامل مع حالات الطوارئ، ومن ضمنها تسليم مستشفى طوارئ ميداني إلى القوات بجزر فوكلاند خلال الحرب في الثمانينيات، والانتهاء من بناء مدرسة ثانوية كاملة في تسعة أسابيع بعد حريق برج غرينفيل بلندن. “فهذه أمور معتادة بالنسبة إلينا. لكن التحدي الرئيسي في الواقع كان توفير ما يكفي من أقنعة FFP3 الواقية، لكي يتمكن عمالنا من ارتدائها خلال العمل في المصنع”.
مركز مؤتمرات يتحول لمشفى يتسع لـ4 آلاف مريض
ورغم أن شركات مثل “بورت كابن” تقوم في الأوضاع الحالية بعملها المعتاد، من جهة توفير مرافق ميدانية قياسية في أسرع وقت ممكن، فإن بعض المواقف تتطلب مزيداً من الحلول الأكثر تخصصاً. ومن الأمثلة على ذلك، إحدى أكثر المنشآت المؤقتة إلحاحاً من الناحية الفنية حتى الآن، ألا وهي تحويل مركز مؤتمرات “إكسيل” في منطقة دوكلاندز بشرق لندن إلى مستشفى “نايتنغيل” الميداني للطوارئ، وهو مستشفى قادر بطاقته الكاملة على استيعاب 4 آلاف مريض. ومع أن قاعات المعرض العملاقة قد سبق أن استضافت مجموعة متنوعة من الفعاليات في الماضي، من معرض “كرافتس” العالمي للكلاب إلى المعارض الدولية للشركات الدفاعية، فإن المشروع الحالي مثّل تجسيداً حياً لاستغلال طبيعة المبنى المرنة إلى أقصى حد لها.
المشروع الذي سُلّمت مرافقه في تسعة أيام، تم الانتهاء منه –على غرار كل جزء آخر من الخطط الوطنية المتعلقة بمواجهة فيروس “كوفيد 19”- بسرعة مذهلة. فقد وقع الاختيار على الموقع في منتصف مارس/آذار، بعد النظر في عدد من القاعات الرياضية الكبيرة والمستودعات. لينطلق العمل بعدها على تجهيز نظام التهوية في المكان للتعامل مع أعداد كبيرة من الأشخاص، وخرق الأرضيات لتركيب المعدات، ووُفرت بالفعل نماذج للانتهاء من أعمال التركيب وفرق من الفنيين ذوي الخبرة بين عشية وضحاها.
يقول جيمس هيبورن، وهو معماري من شركة BDP وقائد فريق التصميمات بالمشروع: “اعتمدت استراتيجية المشروع بالأساس على استخدام أكبر قدر ممكن من البنية التحتية المتاحة بالفعل في الموقع. كان من الواضح منذ اليوم الأول مدى صعوبة توفير معدات جديدة، فقد أغلقت معظم المصانع أبوابها. ومن ثم استخدمنا أقسام المعرض وأضفنا بعض الصلابة إلى أعمدتها لتجهيز الأسرّة، وعملنا بعدها دون انقطاع على إدخال إمدادات الطاقة والمياه والصرف الصحي والغاز الطبي بحيث تمر في ممرات متوازية مع الأسرَّة المتراصة”. وكان توفير مساحة للرؤية بين تلك الممرات أمراً أساسياً، بالنظر إلى أن كل طبيب سيكلَّف متابعة أعداد متزايدة من المرضى.
أصبح الموقع خط إنتاج يعمل على مدار الساعة، وبالتنسيق مع مسؤولين عسكريين، تم تركيب أرضيات الفينيل، وأقيمت الفواصل بين أجنحة المرضى، وعملت فرق من الكهربائيين على تركيب أنابيب لتثبيتها على رؤوس الأسرّة بمجرد استخدامها. وحُوّلت الجادة المركزية بين قاعات المؤتمرات، والتي عادة ما يشغلها مندوبو الشركات المشاركة في المعارض، إلى منطقة مغلقة بحيث يرتدي الأطباء ويخلعون فيها ملابسهم الواقية، كما أصبحت المقاهي المطلة على الواجهة البحرية مناطق مجهزة لراحة العاملين الذين من المتوقع أن يعانون ضغوطاً عصيبة. وبالطبع، هناك مستودع لحفظ جثامين الموتى أيضاً.
ويقول هيبورن: “إنه من اللافت أن الجيش بمجرد إقامته معسكراً ومستشفى ميدانياً، فإن أول شيء يفعله بعدها بناء مستودع لحفظ جثث الموتى. وثمة عنصر استعدادٍ نفسي بارز هنا، فأنت إذا كنت في حالة حرب، فإن معرفة هذا الجانب منها يعطيك شعوراً بالاطمئنان والتسليم”.
دليل إرشادي لبناء المستشفيات الطارئة
وللاطلاع على تجاربها وخبراتها، أنتجت شركة BDP دليلاً إرشادياً عنوانه “كيف..؟” how to، وهو متأثر بأسلوب الرسومات التوضيحية الذي تستخدمه شركة “إيكيا” لبناء الأثاث في كتيباتها الإرشادية، بهدف مساعدة المشروعات الأخرى. فهناك مستشفيات طوارئ مماثلة تجري إقامتها حالياً في بريستول وهاروغيت وبرمنغهان ومانشستر. والسؤال هنا: على الرغم من الكثافة المتسارعة للعملية، هل يمكن أن تقدم التجربة بأكملها بعض الدروس للمستقبل؟
يقول هيبورن: “إذا طلب منك شخص ما تصميمَ مستشفى مثل هذا، فإن الطبيعي أن تقول إنك بحاجة إلى ستة أشهر وفريق ضخم من الأفراد المختارين بعناية، وليس مجموعة من الأشخاص الذين يتصادف اجتماعهم معاً في عطلة نهاية الأسبوع. هنا، لم يقم الأمر على “تراتبية مسؤولي التصميم” المعتادة، ولا قائد يهتم بإزعاج كل مرؤوسيه. لقد كان نهجاً تعاونياً ومتحرراً، وقد أظهر ذلك المشروع ما يمكن تحقيقه عندما يتعاون الجميع حقاً تحت هدف مشترك. إذا عدنا يوماً إلى الوضع الطبيعي، فستصبح المشروعات العادية محبطة للغاية، خاصة إذا رفض أحدهم مشروعاً ما بوصفه لا يمكن إنجازه”.
مصدر-عرب بوست